اتهامات متبادلة ومباحثات تدور في دائرة مغلقة.. هكذا يمكن وصف ما يقرب من عقد كامل من المفاوضات حول "سد النهضة" الإثيوبي، بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، وهي الفترة التي لطالما شهدت تصريحات متفائلة حول القرب من إبرام اتفاق شامل بشأن ملء وتشغيل السد، كما شهدت أيضًا تصريحات ومواقف تُنذر بأنه لا حل للقضية التي طال أمدها، حتى أنها استمرت مع اختلاف الأنظمة السياسية في الدول الثلاث. ويثير السد مخاوف دولتي المصب (مصر والسودان)، حيث تعتبر الدولتان نهر النيل المصدر الوحيد لحياة ما يقرب من 100 مليون مواطن مصري، وما يزيد عن 40 مليون مواطن سوداني.

أحداث 25 يناير

سقوط القاهرة وقيام السد

البداية كانت في عهد الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، حين عارضت إثيوبيا خططه لمد مياه النيل إلى سيناء، ولوّحت ببناء سدود، فوجه "السادات" تحذيراته عام 1979 وقال "إذا قامت إثيوبيا بعمل أي شيء يعوق وصول حقنا في المياه كاملًا، فلا سبيل إلا استخدام القوة".

وفي عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، تجددت خطط إثيوبيا نحو استغلال موارد نهر النيل مرة أخرى من خلال بناء السدود، ما دفع "مبارك" للتهديد بقصف إثيوبيا إذا أقامت أي سدود على النيل، وفي يونيو 2010، قدمت مصر شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي تطالب فيها بعدم تمويل السد.

وفي أبريل عام 2011، وفي ظل الانشغال المصري في أحداث ما عرف بـ"الربيع العربي"، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي البدء رسميًا في بناء السد ووضع حجر الأساس له.

وفي نوفمبر من العام ذاته، بدأت أولى اجتماعات اللجنة الثلاثية الفنية، حيث دخلت مصر الاجتماعات حاملة شعار "لا ضرر ولا ضرار"، بينما حملت إثيوبيا شعار "التنمية أولًا"، فيما اتسم موقف السودان -تحت حكم البشير- بتعظيم السد وتعديد فوائده التي تركزت -بالنسبة للخرطوم- في التحكم في فيضان النيل الأزرق، والحصول على الكهرباء بأسعار تفضيلية كما وعدت أديس أبابا.

ومع صعود الإخوان إلى الحكم في مصر، انتقل الملف من أروقة مؤسسات الدولة إلى مكتب الإرشاد الإخواني القابع على هضبة المقطم شرقي القاهرة، وأوفد "محمد مرسي" رئيس وزرائه "هشام قنديل" إلى أديس أبابا في مارس 2012، وهي الزيارة التي بدت إعلاميًا أنها مباركة للسد الإثيوبي، وفي يوليو من العام ذاته، أجرى مرسي زيارة للسودان تلقى خلالها تعليمات بتخفيف اللهجة المصرية تجاه سد النهضة الإثيوبي، إلى أن وصل الإخوان بمصر إلى مشهد كارثي تمثل في اجتماع "مرسي" بعدد من الشخصيات السياسية والحزبية، وهو الاجتماع الذي أُذيع على الهواء مباشرةً رغم ما تضمنه من تصريحات كارثية.

أما اجتماعات اللجان الفنية فقد استمرت على مدى عدة سنوات، انتهت بمطالب مصرية بالاحتكام لبيت خبرة عالمي لتقييم السد وتحديد آثاره وتداعياته، وهي المرحلة التي ظلت مستمرة حتى عام 2015، انتهت باختيار المكتب الاستشاري، ثم الاتفاق على تشكيل لجنة الخبراء الدوليين لتقييم المشروع، والتي ضمت خبيرين من مصر ومثلهما من السودان، وأربعة خبراء دوليين في مجالات هندسة السدود وتخطيط الموارد المائية والأعمال الهيدرولوجية والبيئة والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للسدود من ألمانيا وفرنسا وجنوب إفريقيا.

تلك اللجنة التي تم تشكيلها بالاتفاق والتراضي بين الدول الثلاث أصدرت تقريرها الذي احتوى على 4 تحفظات تتعلق بسلامة السد والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية على الفئات الفقيرة في مناطق إنشاء السد، وتحفظات تتعلق بتأثيره على الموارد المائية لدولتى المصب وقلة تدفق المياه إليهما، حيث أكدت اللجنة على أن الحكومة الإثيوبية لابد أن تجري المزيد من الدراسات التفصيلية لمنع الآثار السلبية للسد.

30 يونيو

ودعم الخيار التفاوضي

في أعقاب أحداث 30 يونيو في مصر، اتخذت القاهرة الخيار التفاوضي من جديد، وفي يونيو 2014 عقب لقاء مطول بين الرئيس ‬عبدالفتاح السيسي،‮ ‬ورئيس الوزراء الإثيوبي،‮ ‬هايلي مريم ديسالين، صدر إعلان بتشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر، وتضمن الإعلان عددًا من المبادئ، من أهمها احترام مبادئ القانون الدولي‮، و‬الاستئناف الفوري لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة، و‬التزام الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل على مصر، وفي أغسطس من نفس العام عُقد الاجتماع الوزاري الرابع انطلاقًا من الدفعة السياسية، واستمرت الجولات خلال 2014-2015، حتى صدور إعلان المبادئ مارس 2015، بعد أن وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خطابًا من البرلمان الإثيوبي يتضمن رسالة مفادها أن مصر لا تُعارض حق الدول في التنمية لكنها لا تفرّط في حقوقها، وأنه يمكن التوصل إلى صيغة نموذجية للتعاون تعود بالخير على الجميع.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ومنذ التوقيع على اتفاق المبادئ، عقد وزراء الخارجية والري بدول مصر والسودان وإثيوبيا، وكذلك اللجان الفنية عشرات الجولات والاجتماعات بين عواصم الدول الثلاث، كان مصيرها جميعًا الفشل، وسط اتهامات من جانب مصر لإثيوبيا بالتعنت والمماطلة ومحاولة فرض الأمر الواقع.

وفي فبراير 2016، تم الاتفاق على تولي شركتين فرنسيتين متخصصتين لإعداد الدراسات الخاصة بتأثيرات سد النهضة الإثيوبي على مصر والسودان، بالتزامن تواصل اللجان الثلاثية عملها، وهو ما لم يتم الالتزام به في المراحل اللاحقة، حتى اقترحت مصر 2018 مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، فبادرت إثيوبيا بالرفض، فيما بدا "البشير" غير متحمس للمبادرة المصرية.

وعلى الرغم من الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى مصر في يونيو 2018 والاتفاق على تبني "رؤية مشتركة"، إلا أن مباحثات الدول الثلاث ظلت تدور في حلقاتها المفرغة.

على الجانب السوداني، فقد تسبب موقف الرئيس السابق عمر البشير في تعقيد المفاوضات، حيث تعامل مع الملف من الناحية السياسية وليس الفنية، واستبعد السودان تحت حكم البشير أية دراسات حول تأثير السد على بلادهم، وما إذا كان سيترك تأثيرًا سلبيًا أو إيجابيًا، وهو ما أبرزه السودان في حكم ما بعد البشير، إذ اعتبر رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، أن سد النهضة الإثيوبي يشكل تهديدًا لأمن نحو 20 مليون سوداني.