في نوفمبر الماضي، وعلى الشاطئ الشرقي من الخليج العربي، حيث النتوءات المارقة، كاد نظام الملالي الفاشي أن يقيم الموائد، وينصب الحفلات احتفاءً بفوز الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، لمجرد تقديرات سياسية قصيرة النظر، تندرج تحت باب الأمنيات، ظن من نافذتها النظام الإيراني أن "بايدن" قد يكون أقل حدة من سلفه دونالد ترمب، في التعاطي مع الملف النووي بتعقيداته وتشعباته المختلفة.
في 25 من الشهر ذاته كان البيت الأبيض قد أعلن بحسب ما نقلت وكالة "رويترز" أن الرئيس دونالد ترمب وافق على تلقي الرئيس المنتخب جو بايدن تقارير الاستخبارات السرية اليومية التي ترفع للرئيس، كبداية عملية لممارسة الرئيس الجديد بعضاً من صلاحياته، ومن ثم الاطلاع على تفاصيل دقيقة حيال الملفات الأكثر حساسية، وعلى رأسها الملف الإيراني، وأوضاع الشرق الأوسط.
هذا يعني أن تنصيب الرئيس يوم 20 يناير لم يكن سوى الحلقة النهائية في الفترة الانتقالية، ومراحل التسليم والتسلم، ويعني كذلك أن فرص الظهور السريع للملامح السياسية لـ"بايدن" الرئيس وليس المرشح الانتخابي عالية، إذا ما اعتبرنا أنه يمارس جزءا من سلطاته منذ شهرين تقريبا.
عول الإيرانيون على تغير سريع في الموقف الأمريكي تجاه ملفاتهم السياسية والأمنية، ونفوذهم في الشرق الأوسط، بل علت نعرات المظلومية، بعد ساعات قليلة من إعلان فوز "بايدن" حين دعا رئيس النظام الإيراني في بيان له، الرئيس المنتخب لـ"اغتنام الفرصة لتعويض أخطاء الماضي"، في إشارة إلى سياسات "ترمب" بالنسبة لطهران. لكن هل لدي إيران ما تعول عليه؟! وما التحديات التي تقف أمام أهدافها الجديدة؟ وهل يملك "بايدن" ممحاة لإزالة سياسات "ترمب"؟!
غاية ما تريده إيران، العودة إلى عام 2015 حين جرى توقيع الاتفاق النووي مع الدول الخمس الكبرى، وجني مليارات الدولارات على خلفية رفع القيود المفروضة على الأرصدة وعائدات فوائد إيرانية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن إنهاء العمل بالقرارات التنفيذية التي أصدرها "ترمب" بشأن العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على إيران، فضلاً عن إنهاء القرارات غير المسبوقة بتصنيف مسؤولين وجهات حكومية على قوائم الإرهاب الأمريكية وعلى رأسها الحرس الثوري، المدرج أيضاً على عدة قوائم عربية.
النظام الإيراني، يرمي إلى إنهاء عزلته الإقليمية والدولية، وإعادة إدماجه في المجتمع الدولي من منظور خاص بغض النظر عن احترامه للقانون الدولي أو المواثيق والمعاهدات الدولية، كما يسعى إلى الوقف السريع للنزيف الاقتصادي المتسارع الذي تفاقم خلال السنوات الأربع الماضية، على خلفية العقوبات التي وقعت عليه خصوصاً في قطاعي النفط والمال، حيث تشهد معدلات الفقر والبطالة والتضخم ارتفاعات حادة، وتراجعت إيرادات النفط بنحو أكثر من 80%، كما انخفضت صادراتها من النفط وفق وكالة "بلومبيرغ" من 2.6 مليون برميل يومياً قبل ثلاث سنوات، إلى 133 ألف برميل يومياً، في مستوى قياسي لم يسبق الانحدار إليه خلال العقود الثلاثة الماضية، وتسبب بصورة رئيسة في انكماش الناتج القومي بنسبة 15% وفق المساعد الاقتصادي للرئيس الإيراني، كما تفاقمت أزمة السيولة وتضاعفت 4 مرات، وفق رئيس غرفة التجارة الإيرانية، وتجاوز معدل التضخم الشهر الماضي 46%، بحسب مركز الإحصاء الإيراني، وفي يناير 2021 استقال رئيس هيئة البورصة حسن قاليباف، على خلفية تلاعب حكومي بسوق المال لتمويل عجزها المالي.
هذه الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، والتداعيات الكارثية لجائحة كورونا، دعت الحكومة الإيرانية إلى إطلاق مؤشرات للتفاعل السريع، سرعان ما تطورت إلى دعوة واضحة من وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، الذي قال في حوار مع التلفزيون الرسمي "نتوقع نهجاً مختلفاً من بايدن ولدينا رغبة في إجراء حوار حذر مع البيت الأبيض".
جوزيف روبينيت بايدن، الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، بات يلقب بـ"الباحث عن البداية" والحقيقة إنها بدايات، فالملفات المفتوحة بمكتبه الرئاسي كثيرة ومتشعبة وبعضها لا يحتمل مزيداً من الوقت، وفق قوائم الأولويات، حيث آثر الرئيس العمل عليها منذ يومه الأول الذي أصدر فيه 12 أمراً تنفيذياً داخلياً، لكن التحديات الداخلية التي تقف أمام بايدن في الملف الإيراني، أكبر من حسابات السياسة وقوائم الأولويات، ومن أبرز الدلائل على ذلك ما يلي:
- المتابع لخطاب التنصيب الذي ألقاه "بايدن" يلاحظ أنه من المرات النادرة أن يضع الرئيس المنتخب الملفات الخارجية في ذيل اهتماماته، حيث بدا خطاباً محلياً حتى وإن كان برسالة عالمية، بما يؤكد أن الأولوية القصوى للرئيس ستكون "شفاء الأمة" وإصلاح الخلافات في نسيج السياسة الأمريكية، وهو ما سيستغرق وقتاً طويلاً.
- هذا لا يعني أن "بايدن" لا يبدي اهتماماً بالملفات الخارجية، لكن ملامح سياسته ترتكز على أن "الإصلاح المحلي الضروري، شرط مسبق لتعود أمريكا للعب دورها القوى في العالم"، من دون الاستناد على مفاهيم "القيادة المهيمنة"، بل الشراكة، وتبادل المصالح، مع الحلفاء كأمر مفروغ منه.
- لا شك أن الرئيس بايدن سيعطي الأولوية للقضايا الخاصة بالكوارث البشرية والاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا، حيث بادر بإصدار أوامر تنفيذية للتعاطي مع الجائحة التي تتفشى في البلاد، فضلاً عن تداعياتها على الوظائف، والاقتصاد وحركة التجارة والاستثمار.
- يواجه الرئيس بايدن "حقل ألغام" داخلي، على خلفية الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أحدثت استقطاباً سياسياً حاداً، لم تعرفه الولايات المتحدة في تاريخها، واستمرار التشكيك في نتائج الانتخابات على نطاق واسع، حيث يظهر ذلك في استطلاع أجرته منظمة "مورنينغ كونسولت" للأبحاث، حيث أكد أن 22% فقط من أعضاء الحزب الجمهوري، يؤمنون بنزاهة وسلامة العملية الانتخابية!
- تعاني الولايات المتحدة، من وصمات الانقضاض على "معبد الديمقراطية"، وهزة كبرى في سمعتها الداخلية، ونسيجها الوطني، وثوابتها التي طالما ظلت راسخة، والتي انتهت بليلة السادس من يناير (يوم المصادقة على فوز بايدن)، عبر اقتحام مقر "الكابيتول"، ورغم عدم صدور نتائج التحقيقات حتى الآن، والتي من بينها إجراءات تجاه الرئيس السابق "ترمب"، إلا أن تقارير أمريكية، وأعضاء بالكونغرس فسروا ما جرى في تلك الليلة بـ"محاولة الانقلاب الفاشلة" في منحى لم يتوقعه أحد سوى "الثعلب الأمريكي" هنري كيسنجر حينما قال في حوار مع صحيفة «الأتلانتيك» عام 2016 إن "ترمب سوف يحدث صدمة خطيرة على البلاد"، ولا تزال الأوساط السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة منقسمة حول توصيف مع جرى في 6 يناير ما بين توصيفه بالتمرد، أو الانقلاب، أو العمل الإرهابي، لا سيما أن الهجوم على "الكابيتول" هو الأول منذ هجوم الجيش البريطاني على ذات المقر عام 1814م.
- يواجه "بايدن" انشغال داخلي أكثر عمقاً، يتعلق بالتركيبة السياسية الحالية، حيث أفرزت المرحلة الماضية، حراكاً خارج عن الإطار السياسي الأمريكي المعروف (جمهوري/ديمقراطي)، متمثلاً فيما يسمى "Trumpism"، والحركة الشعبوية الجارفة التي كانت شعلة في تصويت 75 مليون أمريكي للرئيس السابق دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة.
- كذلك تتعرض الولايات المتحدة لتحديات أمنية داخلية غير مسبوقة، متمثلة في حركات إرهابية داخلية، كـ"أنتيفيا" و"كيوآنون" وغيرها من الحركات التي أجبرت الرئيس الجديد ولأول مرة منذ عقود إلى إصدار أمر تنفيذي لأجهزة الاستخبارات مجتمعة بإعادة تقييم الحالة الأمنية، وأنشطة الإرهاب الداخلية، كما لم تخف وزارة الأمن الداخلي، في بيان رسمي "أن التهديد الأكثر خطورة واستمراراً داخل الولايات المتحدة ناشئ عن الجماعات اليمينية المتطرفة التي تروج للهيمنة العرقية العنصرية البيضاء".
- بالرغم من أن الرئيس ترك أمر محاكمة "ترمب" للجان وأعضاء الكونغرس فإن نتائجها أياً كانت سوف تطاله بالدرجة الأولى، بل ربما تكون عاملاً مؤثراً في إدارته، حيث إن ما يمكن وصفه بـ"معسكر الممانعة اليميني" يتنامى بدرجة كبيرة ويجيد أنصار الحزب الجمهوري استغلاله، وبالتالي فإن قراراً بعزل الرئيس السابق "ترمب" وحرمانه من ممارسة حياته السياسية، سوف يلقي بظلاله على المشهد الأمني، بما له من تداعيات على حدة التوترات في الشارع الأمريكي، التي من شأنها تجدد أعمال العنف.
- أما ما لم يتوقعه الرئيس الجديد، فهو ما يمكن وصفه بـ"النيران الصديقة"، حيث بزوغ معارضة من داخل حزبه الديمقراطي، يقودها قطاعات من الاتجاه اليساري الرافضة لعدد من بنود برنامجه السياسي، والشخصيات التي اختارها "بايدن" للمناصب الكبرى كـ"نيرا تاندين" مديرة مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض، والتي تواجه انتقادات حادة لآرائها فيما يتعلق بـ" العدالة الاجتماعية"، وكذلك أنتوني بلينكن وزير الخارجية، الذي يواجه غضباً حاداً من قبل اليساريين الديمقراطيين، بسبب تأييده للتدخلات العسكرية الأمريكية التي ينادون بتقليصها.
قبل 5 سنوات ترك الرئيس الأمريكي الحالي "بايدن" منصبه في البيت الأبيض كنائب للرئيس في أعقاب انتهاء الولاية الثانية للرئيس الأسبق باراك أوباما، حينها كانت الملفات المطروحة على طاولة المكتب البيضاوي متشعبة ومعقدة بصورة كبيرة، غير أن تلك الملفات وإن بقي معظمها مفتوحاً على ذات الطاولة خلال السنوات الماضية (ولاية ترمب)، إلا أن ملامحها وتفاعلاتها قد تغيرت تماماً خلال السنوات الماضية، فلم تعد سمعة ما يسمى "الربيع العربي" أمام الشعوب العربية تسمح بإعادة تدويره كما تتمنى الدوائر الإيرانية- الإخوانية، فمفهوم "الدولة الوطنية" بات النظرة الوحيدة لدول المنطقة، لا سيما القوى التقليدية (السعودية، مصر)، في مواجهة مشاريع "الدول الأيديولوجية"، التي استطاعت من خلالها إيران النفاذ إلى عدة عواصم عربية خلال العقد المنصرم، وبالتالي سوف تتفاعل سياسة "بايدن" في ملف إيران على تلك المعطيات.
كما لم يعد الشرق الأوسط بالحالة التي تركها نائب الرئيس "بايدن"، فهناك نفوذ روسي لافت في المنطقة وتموضع استراتيجي في سوريا، يسمح للدب الروسي بفرض كلمته على المشهد السياسي في الشرق الأوسط، وخيوطه المتشعبة، بما في ذلك تقرير مصير بقاء الميليشيات الإيرانية في سوريا، فرغم أن جميع الشواهد الأخيرة تؤكد أن روسيا تغض الطرف عن الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سوريا، فإنها لم تطلق أي مؤشرات تؤكد رغبتها في إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، وإنما لا ترغب فقط في زيادة نفوذ طهران أو تموضعها بالصورة التي تخصم من الرصيد الاستراتيجي الروسي، وبالتالي تسمح لإسرائيل بفض هذه التمركزات الإيرانية، بينما تستمر في إدارة لعبة الكراسي الموسيقية بين إيران وإسرائيل، وهو ما تجلى، مؤخراً، في اجتماع استضافته قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، نهاية 2020، ضم مسؤولين سوريين وإسرائيليين لبحث عدد من النقاط بينها "مصير ميليشيات إيران في سوريا".
وتعاني بوصلة "بايدن" من فقد آليات الشراكة الحقيقة مع الحليف الأوروبي، الذي كان "عراب" الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015، حيث فقدت العلاقات الأمريكية-الأوروبية كثيراً من خصوصيتها خلال السنوات الماضية، وهو ما يعمل الرئيس بايدن على إصلاحه أولاً، وتكشفت ملامح ذلك في اتصاله الأول بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي لم يخل من مباحثات حول الملف النووي الإيراني وفق بيان صادر عن "الإليزيه".
كما يواجه "بايدن" في تفاعله مع إيران، استمرارها على قوائم الدول الراعية للإرهاب، وتصنيف إحدى قواتها "النظامية" كمنظمة إرهابية وهي الحرس الثوري، كما أن بعضاً من العقوبات الرئيسية المفروضة على النظام الإيراني يتعلق بمنظومته الصاروخية، ومن ثم فإن عملية الانخراط في مفاوضات جديدة لا بد أن تسبقها خطوات طويلة وماراثون تمهيدي، لكن المؤكد أنها لن ترمي إلى إعادة الاتفاق النووي، بل إبرام اتفاق نووي جديد، يشارك في صياغته السعودية والإمارات "حلفاء أمريكا" كما أعلن فريق "بايدن" الرئاسي.